فرويد: مختارات من "قلق في الحضارة"
-3-
لم تزدنا دراستنا عن السعادة حتى الآن معرفة بشيء لا يعلمه الناس جميعا. وإذا أردنا ان نتممها هنا بالبحث في علة المصاعب التي تحول دون ان يصير الناس سعداء على نحو ما يحلو لهم، فان حظنا في اكتشاف شيء جديد لا يبدو اكبر بكثير. فلقد سبق أن أعطينا الجواب بإشارتنا إلى المصادر الثلاثة التي ينبع منها الألم الإنساني: قوة الطبيعة الساحقة، شيخوخة الجسم البشري، وأخيرا عدم كفاية التدابير الرامية إلى تنظيم العلاقات بين البشر، سواء أضِمْنَ الأسرة أم الدولة أم المجتمع. وفيما يتعلق بالمصدرين الأولين لا مجال لترددنا طويلا، إذ أن حصافتنا تجبرنا على الاعتراف بواقعيتهما، مثلما تجبرنا على الرضوخ لما لا مهرب منه. فنحن لن نحكم أبدا تمام الإحكام سيطرتنا على الطبيعة، وجسمنا، الذي هو ذاته عنصر من عناصر الطبيعة، سيبقى ابد الدهر قابلا للفناء ومحدودا في مقدرته على التكيف، كما في سعة وظائفه. لكن الإقرار بهذه الحقيقة لا يجوز ان يحكم علينا بالشلل: بل على العكس، إذ انه يعّين لنشاطنا الوجهة التي ينبغي عليه ان يسلكها. فلئن كنا لا نستطيع إلغاء الآلام كافة، ففي مقدورنا على الأقل التخلص من بعضها وتسكين بعضها الآخر: وبرهاننا على ذلك تجربة لها من العمر ألوف السنين. بيد أننا نلاحظ موقفا مختلفا تجاه المصدر الثالث للألم، ولا يسعنا أن ندرك لماذا لا توفر المؤسسات التي أنشأناها بأنفسنا الحماية والمنفعة لنا جميعا. وعلى كل حال، لو أمعنا التفكير في الفشل المحزن الذي تُمنَى به، في هذا المجال على وجه التحديد، إجراءاتنا للوقاية من الألم، لشرعت تراودنا الشكوك بأن ثمة قانونا ما للطبيعة التي لا تقهر يتواري هنا أيضا عن الأنظار، وان هذا القانون يتعلق هذه المرة بتكويننا النفسي بالذات.
وإذا ما تصدينا لدراسة احتمال كهذا، اصطدمنا على الفور بتوكيد طالما طرق آذاننا، ولكنه يستأهل ان نتوقف عنده لأنه عجيب ومدهش حقا. فهو يزعم أن ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي ان نحّمله إلى حد كبير تبعة بؤسنا، وأن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية سيكفل لنا قدرا من السعادة اكبر بكثير. انني اعتبر هذا التوكيد عجيبا ومدهشا لأنه من المؤكد الثابت بالرغم من كل شيء، أيا يكن التعريف الذي نلبسه لمفهوم الحضارة، ان كل ما نسعى إلى تجنيده لحمايتنا من تهديدات الألم الناجم عن هذا أو ذاك من المصادر الآنفة الذكر إنما هو من صنع هذه الحضارة عينها.
كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية إلى الأخذ، على ما في ذلك من غرابة، بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ اعتقد ان استياء دفينا، من منشأ ناء للغاية، كان يتجدد في كل طور من أطواره، هو الذي حث على تلك الإدانة التي كانت تتكرر بانتظام بفضل ظروف تاريخية مؤاتية. ويخيل إلي انني قادر على معرفة ما كان الأخير وما قبل الأخير من تلك الظروف، لكنني لست ضليعا بما فيه الكفاية في العلم لأتتبع تسلسلها عبر الماضي السحيق للجنس البشري. حسبي أن أشير إلى أن عامل العداء للحضارة كان من أسباب انتصار المسيحية على الوثنية، إذ جرى وثيق الربط بينه وبين الخفض من قيمة الحياة الأرضية كما نادى به المذهب المسيحي. وقد قام ما قبل الأخير من تلك الظروف التاريخية حين أتاح تطور الأسفار الاستكشافية إمكانية الاتصال بالأجناس والشعوب المتوحشة. فقد تصور الأوروبيون، نظرا إلى عدم توفر الملاحظات الكافية والتفهم الصحيح لعادات المتوحشين وأعرافهم، ان هؤلاء الأخيرين يحيون حياة بسيطة وسعيدة، فقيرة بالحاجات، على نحو ما عاد متاحا للمستكشفين الأكثر تَمَدْيُناً الذين يزورونهم. وقد جاءت التجربة اللاحقة لتصحح، في اكثر من نقطة، ذلك الحكم. فلئن كانت الحياة اسهل عليهم بالفعل، فقد ارتكب الأوروبيون مرارا وتكرارا خطأ عزو خفة الأعباء هذه إلى غياب المطالب البالغة التعقيد والناجمة عن الحضارة، مع أن الفضل فيها كان يعود، بوجه الإجمال، إلى كرم الطبيعة والى جميع التسهيلات التي تتيحها للمتوحشين لتلبية حاجاتهم الحيوية. أما آخر تلك الظروف التاريخية فقد قام حين تعلمنا أن نمّيز أواليات[19] العُصاب[20] الذي هدد بتخريب القسط الضئيل من السعادة الذي فاز به الإنسان المتمّدن. وقد اكتشف الناس عندئذ ان الإنسان يصير عصابيا لأنه لا يستطيع ان يتحمل درجة العزوف والزهد التي يتطلبها المجتمع باسم مثله الأعلى الثقافي، وخلصوا إلى الاستنتاج بأن إلغاء تلك المطالب أو تخفيفها يعني رجوعا إلى إمكانيات السعادة. هناك سبب آخر أيضا للخيبة ولانقشاع الأوهام. فخلال الأجيال الأخيرة تمكنت البشرية في مجال العلوم الفيزيائية والطبيعية وتطبيقاتها التقنية من تحقيق تقدم خارق للمألوف، وقد بسطت بنتيجة ذلك سيطرتها على الطبيعة على نحو ما كان يمكن تصوره قبل اليوم. وسمات هذا التقدم معروفة للجميع إلى حد يغني حتى عن تعدادها. وبنو الإنسان فخورون بتلك الفتوحات، وهم في فخرهم هذا محقون. بيد انه يخيل إليهم ان هذه السيطرة الحديثة العهد على المكان والزمان، وهذا الاسترقاق لقوى الطبيعة، وهذا التحقيق لصبوات وأماني لها من العمر آلاف السنين، لم تزد البتة من مقدار المتعة التي ينتظرونها من الحياة. ومن ثم، لا يعمر أفئدتهم الإحساس بأنهم صاروا نتيجة ذلك أكثر سعادة، وقد كان من المفروض ان يكتفوا بالاستنتاج بأن السيطرة على الطبيعة ليست شرط السعادة الوحيد، كما انها ليست الهدف اليتيم لعملية التمدين. لا أن يستنتجوا ان تقدم التقنية غير ذي قيمة بالنسبة إلى "اقتصاد" سعادتنا. وبالفعل، ألن نميل إزاء الاستنتاج الأخير إلى الاعتراض بقولنا: أليس مكسبا إيجابيا من اللذة، الا يزداد بلا لبس شعوري بالسعادة، إذا ما أمكنني أن أسمع متى ما شئت صوت ولدي الذي يقطن على بعد مئات الكيلومترات، أو إذا ما أتمكنني ان اعلم فور نزول صديقي من الباخرة التي كانت تقله أن رحلته الطويلة والشاقة قد انتهت بسلام. أهو شيء تافه ان يكون الطب قد افلح في تخفيض نسبة وفيات الأطفال، وفي تقليص أخطار إصابة الناس بالعدوى تقليصا يبعث على الدهشة حقا؟ أهو شيء عديم القيمة ان يكون الطب عينه قد نجح في إطالة الأمد المتوسط لحياة الإنسان المتمدن بعدد غير هين من السنين؟ أنه لفي مستطاعنا أن نضيف إلى هذه المحاسن، التي ندين بها لعصر التقدم العلمي والتقني هذا، على كثرة ما يتعرض له من ذم وتحقير، قائمة بكاملها.... ولكن هو ذا صوت النقد المتشائم يعلو ويرتفع! الصوت الذي يبث في الآذان ان غالبية هذه التسهيلات هي من طبيعة مماثلة لتلك "اللذة الرخيصة" التي تطريها النكتة المعروفة التالية: عرِّض ساقك العارية للبرد، خارج الفراش، فتفوز فيما بعد بـ "لذة" إعادتها إلى الدفء! فلولا السكك الحديدية، التي ألغت المسافة، هل كان أولادنا غادروا مسقط رأسهم، وهل كانت ستوجد، من ثم، حاجة إلى التلفون لسماع صوتهم؟ ولولا الملاحة عبر المحيطات لما كان صديقي فكر بالسفر، ولكنت استغنيت عن التلغراف للاطمئنان على مصيره. وما الفائدة من تقليص وفيات الأطفال إذا كان هذا التقليص ذاته يفرض علينا ان نضبط أنفسنا ضبطا شديدا في الإنسال، وإذا كنا بعد كل شيء لا نربي عددا من الأطفال اكبر من العدد الذي كنا نربيه أيام لم يكن لقواعد حفظ الصحة من وجود، وهذا بينما طرأ من جهة أخرى تعقيد على شروط حياتنا الجنسية في الزواج وانتفى في أغلب الظن التأثير الإيجابي للانتخاب الطبيعي؟ وماذا نجني أخيرا من طول أمد الحياة، إذا كانت هذه الحياة عينها ترهق كواهلنا بأعباء ومشاق لا تقع تحت حصر، وإذا كانت فقيرة بالأفراح، غنية بالآلام، إلى حد نرحب معه بالموت بوصفه خلاصا سعيدا؟
يبدو انه بحكم المؤكد اننا لا نشعر بأننا في يسر من امرنا وهناء في ظل حضارتنا الراهنة، لكن من العسير جدا ان نحكم هل شَعَرَ أهل الماضي، والى أي حد، بأنهم أسعد حالا، وان نقيّم بالتالي الدور الذي لعبته شروط حضارتهم. اننا ننزع على الدوام إلى تصور البؤس من زاوية موضوعية، وبعبارة أخرى، ننزع على الدوام إلى ان ننتقل بالفكر، مع حفاظنا على مطالبنا وسياستنا الخاصة، إلى شروط الثقافات القديمة لنتساءل عندئذ عن فرص السعادة أو التعاسة التي كانت ستتاح لنا في ظلها. وهذه الكيفية في النظر إلى الأمور، ان تكن موضوعية في الظاهر لأنها لا تقيم اعتبارا لتحولات الحساسية الذاتية، فهي في جوهرها ذاتية بكل القدر الممكن، لأنها تُحِل استعداداتنا النفسية محل سائر الاستعدادات الأخرى المجهولة لدينا. على ان السعادة هي، على كل حال، شيء مغرق في الذاتية. فمبلغا ما بلغ بنا النفور والاشمئزاز من بعض المواقف والأوضاع، كوضع المحكوم بالأشغال الشاقة في سالف الأزمان، أو وضع الفلاح في حرب الثلاثين عاما[21]، أو وضع ضحية محاكم التفتيش المقدس، أو وضع اليهودي المعرض للمجازر الجماعية، فانه يتعذر علينا على كل حال ان نضع أنفسنا محل أولئك التعساء، وأن نتكهن بالتشوهات التي أنزلتها عوامل نفسية متباينة بقدراتهم على استقبال الفرح والوجع. وفي عداد هذه العوامل لنذكر الحالة البدائية من اللاحساسية البليدة، والتَبَلّه التدرجي، وقطع حبل كل رجاء، وأخيرا مختلف الطرائق الفجة أو المهذبة في إلهاء النفس. وفي حالة حدوث ألم فائق الشدة، يمكن ان تتدخل أواليات نفسية معينة للحماية من الوجع. لكن يخيل إلي انه لا جدوى من مواصلة التبّحر في هذا الجانب من المشكلة. لقد آن الأوان للنظر في جوهر تلك الحضارة التي وضعت قيمتها، بصفتها مصدرا للسعادة، موضع تشكيك. ولن نطالب بصيغة تحددها في قليل من الألفاظ قبل ان نكون قد فزنا ببعض الجلاء من فحصها وتحليلها. حسبنا ان نكرر القول[22] بأن مصطلح الحضارة[23] يشير إلى جملة الصنائع والتنظيمات التي يبعدنا تأسيسها عن حالة أسلافنا البهيمية والتي تفيد في غرضين: حماية الإنسان من الطبيعة، وتنظيم علاقات البشر فيما بينهم. ولمزيد من الوضوح سنفحص واحدة تلو الأخرى سمات الحضارة كما تتبدى في المجتمعات الإنسانية. وسوف يكون هادينا بلا تحفظ أثناء هذا الفحص اللغة الذائعة، أو كما يقال أيضا "الحس اللغوي"، مطمئنين إلى أننا بذلك لا نغمط حق تلك الحدوس العميقة التي ما تزال تتأبّى إلى اليوم على الترجمة إلى مصطلحات مجردة. ان التوطئة لموضوعنا سهلة ميسورة، فنحن نسلّم بصفة الحضارة لجميع النشاطات والقيم النافعة للإنسان لتطويع الأرض خدمة له ووقاية من جبروت قوى الطبيعة: وهذا المظهر من مظاهر الحضارة هو أقلها إثارة للشبهات وللجدل. وإذا أردنا أن نوغل بعيدا في الماضي، فسنذكر من بين الوقائع الحضارية الأولى استعمال الأدوات، وتدجين النار، وتشييد المساكن. وتحتل ثانية هذه الوقائع مكانا رفيعا باعتبارها إنجازا خارقا للمألوف ولا سابق له[24]. أما الواقعتان الأخريان فقد فتحتا للإنسان طريقا ما لبث فيما بعد أن غدا السير فيها قدما إلى الأمام، ومن السهل أصلا تخمين الدوافع التي كانت تحضه على ذلك. وبفضل ما بات في متناول الإنسان من أدوات، جَوَّد أعضاءه (المحركة والحواسية على حد سواء) أو وسّع توسيعا مرموقا حدود مقدرتها. وزودته الآلات ذات المحرك بقوى جبارة تتساوى وقوى عضلاته بالذات من حيث سهولة توجيهها والتحكم بها. وبفضل السفينة والطائرة، ما عاد لا الماء ولا الهواء يعيقان تنقله وتسفاره. وبالنظارات صحح عيوب عدسات عينيه، وأتاح له المقراب (التلسكوب) ان يرى إلى مسافات بعيدة، مثلما أتاح له المجهر (الميكروسكوب) ان يتخطى الحدود الضيقة التي ترسمها لبصره بنية شبكية عينه. وباكتشاف آلة التصوير الفوتوغرافي كفل لنفسه أداة تثبت الظواهر الزائلة، كما ان اسطوانة الحاكي تؤدي له الخدمة عينها فيما يتعلق بالانطباعات الصوتية العابرة، وما هذان الجهازان في الواقع الا تجسيد مادي للمقدرة التي وُهبت له على التذكّر، وبعبارة أخرى، ما هما الا تجسيد لذاكرته. وبفضل الهاتف صار يسمع من بعيد، من مسافات كانت الحكايات الخرافية ذاتها تقرّ بأنها غير قابلة للاجتياز. وفي الأصل، كانت الكتابة لغة الغائب، وكان المنزل السكني بديل جسم الأم، ذلك البيت الأول الذي يبقى الحنين إليه أبد الدهر على الأرجح، والذي كان المرء يعرف الأمان فيه ويشعر بأنه في يسر من أمره وهناء. لكأنها حكاية من حكايات الجنيات! وبالفعل، ان تلك المنجزات والصنائع التي عرف الإنسان بفضل علمه وتقنيته كيف يغني بها هذه الأرض التي رأى النور على سطحها أول ما رآه مخلوقا صغيرا قريبا إلى البهيمة والتي لا يزال على كل سليل من عرقه أن يدلف إليها في حالة الرضيع الذي لا حول له ولا قوة - يا لبوصة الطبيعة أقول: ان تلك المنجزات والصنائع ان هي الا التحقيق المباشر لجميع، كلا، لمعظم، الأماني التي عبرت عنها حكايات الجنيات تلك. وفي وسع الإنسان، بلا جدال، ان يعتبرها فتوحات للحضارة. لقد كان كوّن لنفسه، منذ سحيق العصور، مثلا أعلى لكلية القدرة ولكلية العلم، ثم جسده في آلهته. وعزا إلى هذه الآلهة كل ما لبث عَصّيا أو محظورا عليه. في مقدورنا إذن ان نقول ان تلك الآلهة كانت "مُثُلا عليا حضارية". وما دام الآن قد اقترب غاية الاقتراب من هذا المثل الأعلى، فقد أمسى هو نفسه شبه إله. لكن فقط، في الحقيقة، على المنوال الذي يصل به بنو الإنسان بوجه عام إلى أنماطه الخاصة من الكمال، أي على نحو منقوص: بصدد بعض النقاط لا يصلون إلى هدفهم بالمرة، وبصدد بعضها الآخر يصلون إلى نصف ما يريدون. لقد غدا الإنسان، ان جاز القول، ضربا من "إله رمامي"[25]، إلها يستأهل بالتأكيد كل إعجاب ان كان مسلحا بأعضائه المساعدة، لكن هذه الأعضاء لم تنبت معه وكثيرا ما تسبب له ألما بالغا. وعلى كل حال، من حقه أن يتعزى بفكرة ان ذلك الارتقاء لن ينتهي مع عام اليُمن والبركة، عام 1930[26]. فالمستقبل البعيد سيأتينا، في هذا الميدان من ميادين الحضارة، بتقدم جديد ومرموق، وعلى قدر من الأهمية يتعذر في أغلب الظن التنبؤ به من الآن. وسوف يعزز التقدم الآتي ملامح الإنسان الإلهية اكثر فاكثر. بيد اننا لا نريد ان ننسى، وهذا لصالح دراستنا، أن أي إنسان معاصر لا يشعر بأنه سعيد، مهما قارب أن يكون إلها. اننا نتعرف المستوى الحضاري الرفيع لقطر من الأقطار حين نلاحظ ان كل شيء فيه مدروس بعناية ومنظم بفاعلية من أجل استغلال الإنسان للأرض، وان حماية هذا الإنسان من قوى الطبيعة مؤمنة ومضمونة، وبكلمة واحدة، ان كل شيء فيه مدَّبر ابتغاء نفعه. وفي قطر كذاك تُنظّم مجاري الأنهار المهددة بالفيضان، وتُساق المياه المتاحة عن طريق شبكة من الأقنية إلى الأماكن التي لا تتوفر فيها. وتُفلح الأرض بعناية، وتُزرع فيها نباتات موائمة لطبيعتها، وتُستخدم الثروات المنجمية المستخرجة على نحو متواصل من باطن الأرض في صنع أدوات وآلات لها ضرورتها الحيوية. وتُربل فيه وسائل المواصلات، وتكون سريعة وأمينة، وتُستأصل شأفة الوحوش الكاسرة والخطرة، وتزدهر تربية الحيوان. لكننا نطالب الحضارة بالمزيد، ونتمنى ان نرى تلك الأقطار عينها تتصدى على نحو كريم لتلبية مطالب أخرى. وبالفعل، اننا لا نتردد في ان نحيي أيضا، كما لو أن مبتغانا الآن التنكر لأطروحتنا الأولى، كل اهتمام يصدر عن البشر تجاه الأشياء التي لا نفع منها يرجى أو حتى تلك التي لا جدوى منها البتة في الظاهر، على اعتبار ان مثل هذا الاهتمام هو مؤشر من مؤشرات الحضارة، ومن قبيل ذلك حينما نشاهد في هذه المدينة أو تلك الحدائق العامة، تلك الفسحات الضرورية لها بصفتها مستودعات للهواء الطلق وملاعب، وقد جُمّلت أيضا بمسالك مُزهّرة، أو نرى نوافذ البيوت وقد زُينّت بأصص الأزهار. ان هذا "اللامجدي" الذي نطالب الحضارة بأن تعترف بكامل قيمته ما هو، وهذا ما نتبينه للحال، الا الجمال. اننا نطالب الإنسان المتمدن بأن يكرّم الجمال حيثما التقاه في الطبيعة، نطالب بأن تستنفر الأيدي كل ما تتمتع به من مهارة في تزيين الأشياء به. وهيهات ان نستنفذ لائحة المطالب التي نتقدم بها إلى الحضارة. ونحن نرغب أيضا في ان نرى علائم النظافة والنظام. اننا لا نكوّن فكرة رفيعة عن التنظيم المديني لبلدة في الريف الإنكليزي، في زمن شكسبير، حين نقرأ أنه كانت ترتفع، أمام باب منزل أبويه في ستراتفورد، كومة كبيرة من الزبل. واننا لنغتاظ ونتكلم عن "البربرية"، أي نقيض الحضارة، حين نشاهد دروب "وينرفالد" [غابات أخّاذة حول فيينا] وقد انتشر فيها مزق الأوراق. ان كل وساخة تبدو لنا متنافية مع حالة التمدين. ثم اننا نسحب على الجسم البشري مطلب النظافة، ويأخذنا العجب من علمنا ان الملك - الشمس[27] نفسه كانت تفوح منه رائحة كريهة، وأخيرا نهز رأسنا تعجبا عندما نعاين في ايزولا بيللا الطشت الصغير الذي كان نابليون يستخدمه لاغتساله الصباحي. بل اننا لا ندهش البتة عندما نسمع ان استعمال الصابون هو المقياس المباشر لدرجة التحضر. وكذلك الحال فيما يتعلّق بالنظام الذي يرتبط هو الآخر، شأنه شأن النظافة، بالتدخل الإنساني. ولكن لئن لم يكن في وسعنا أن نتوقع أن تسود النظافة في قلب الطبيعة، فان هذه الأخيرة تعلمنا بالمقابل النظام، هذا إذا شئنا ان نصيخ السمع إليها، فملاحظة الانتظام العظيم للظاهرات الفلكية لم تقدم للإنسان مثالا وقدوة فحسب، بل أيضا الصورة الأولى الضرورية لإدخال النظام على حياته. ان النظام ضرب من "الإكراه على التكرار" وهذا الإكراه هو الذي يقرر، مستفيدا من التنظيم الذي يقام ليدوم، متى وأين وكيف يتوجب فعل هذا الشيء أو ذاك، وبذلك يوفر الإنسان على نفسه جهد التردد وتلمس الطريق متى ما تماثلت الظروف. والنظام، الذي لا مراء البتة في محاسنه، يسمح للإنسان بأن يستعمل على افضل نحو المكان والزمان، وبأن يقتصد في الوقت نفسه في قواه الجسمانية. ومن حقنا ان نفترض ان النظام تجلّى من البدء وتلقائيا في الأفعال الإنسانية، وعجيب حقا ألا تكون الأمور قد جرت على هذا النحو، بل الأعجب من ذلك أن يكون الإنسان قد أظهر ميلا طبيعيا إلى الإهمال واللانظام وعدم الدقة في العمل، وأن تكون الحاجة قد دعت إلى بذل جهود متضاعفة لحمله، بواسطة التربية، على الاحتذاء بمثال السماء. يحتل الجمال والنظافة والنظام مكانة خاصة، بكل تأكيد، بين مطالب الحضارة. وإذا لم يكن للإنسان ان يزعم أن أهميتها تماثل أهمية السيطرة على قوى الطبيعة، وهذه السيطرة حيوية جدا بالنسبة إلينا، أو تعادل أهمية عوامل أخرى ما يزال علينا أن نتعلم كيف نتعرفها، فليس لإنسان أيضا ان يخفض منزلتها بطوع إرادته إلى مرتبة الأمور الثانوية. ومثال الجمال، الذي لا يسعنا أن نقبل بنفيه من عداد مشاغل الحضارة واهتماماتها، يكفي وحده لكي يبين لنا أن الحضارة لا تضع نصب عينيها النافع وحده دون غيره. وعلى كل، فان نفعية النظام بديهية لا مماراة فيها. أما النظافة، فلا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أن علم الصحة يقتضيها هو الأخر، ومن المباح لنا أن نفترض ان هذه العلاقة لم تكن مجهولة من الناس، حتى قبل تطبيق العلم في مجال الوقاية من الأمراض. بيد أن مبدأ النفعية لا يفسر تمام التفسير ذلك الميل: ولا بد أن ثمة عاملا آخر يلعب دوره في الموضوع.
لكننا لا نستطيع أن نتخيل سمة أكثر تمييزا للحضارة من القيمة المعلقة على النشاطات النفسية العليا من إنتاجات فكرية وعلمية وفنية، ولا مؤشرا ثقافيا موثوقا كالدور القيادي المنسوب إلى الأفكار في حياة البشر. وبين هذه الأفكار تحتل الأنظمة الدينية أرفع مكانة في سلّم القيم. وقد حاولت في موضع آخر أن أسلط الضوء على بنيتها المعقدة. وتصطّف إلى جانبها في المرتبة الثانية التأملات الفلسفية، ثم أخيرا ما يمكن ان يمسى بـ "الانشاءات المثالية" لبنى الإنسان، أي الأفكار المتعلقة بإمكان تحسين وضع الفرد أو الشعب أو البشرية قاطبة، أو المطالب والصبوات التي تنهض فيهم على هذا الأساس. وكون إبداعات الفكر تلك متداخلة أشد التداخل، لا منفصلة بعضها عن بعض، يجعل صياغتها والتعبير عنها واشتقاقها السيكولوجي مهمة عويصة وشائكة. وإذا سلمنا بصورة بالغة العمومية بأن نابض كل نشاط إنساني هو الرغبة في الوصول إلى هدفين متقاربين، النافع واللذيذ، توجّب علينا أن نطبق هذا المبدأ نفسه على التظاهرات الثقافية المطروحة على بساط النقاش هنا، على الرغم من أن النشاطين العلمي والفني هما وحدهما اللذان يؤكدان من بين هذه التظاهرات صحّة ذلك المبدأ. ولكن لا سبيل إلى الشك في أن التظاهرات الأخرى لا تتطابق هي الأخرى مع حاجات إنسانية بالغة القّوة، حتى وان لم تكن متطورة الا لدى أقلية قليلة فقط. كذلك ينبغي الا تضللنا أحكام القيمة التي تطلق على بعض من تلك المثل العليا أو على بعض من تلك الأنظمة الدينية والفلسفية. فسواء أحاولنا ان نرى فيها أرفع خلق وأسمى إبداع للفكر الإنساني، أم أصررنا على أن نرى فيها مجرد تخريف وهذر يدعوان للرثاء، فإننا مضطرون في الأحوال جميعا إلى الإقرار بأن وجودها، وعلى الأخص رجحان كفتها وتفوقها، يدل على مستوى رفيع من الثقافة والحضارة.
ان آخر سمات الحضارة، ولكن ليس بكل تأكيد أدناها شأنا، تتجلى في الكيفية التي تنظم بها علاقات البشر فيما بينهم. هذه العلاقات، المسماة بالاجتماعية، تخص الكائنات البشرية إما بصفتهم جيرانا لبعضهم البعض، وإما بصفتهم أفرادا يبذلون ما أوتوا من قوى كي يتساعدوا ويتعاضدوا، وإما بصفتهم مواضيع جنسية لأفراد آخرين، وإما بصفهتم أعضاء في أسرة أو في دولة. وبوصولنا إلى هذه النقطة، يصبح من العسير علينا للغاية ان نتمثل ما المقصود في خاتمة المطاف بمصطلح "المتمدن"، من دون أن نتأثر على كل حال بالمطالب التي يحددها هذا المثل الأعلى أو ذاك. وربما لجأنا بادئ ذي بدء إلى التفسير التالي: إن العنصر الحضاري يقوم بقيام المحاولة الأولى لتنظيم تلك العلاقات الاجتماعية. فان لم تقم مثل هذه المحاولة، خضعت تلك العلاقات الاجتماعية للعسف الفردي، وبعبارة أخرى، تولى تنظيمها الفرد الأقوى جسمانيا على نحو يخدم مصالحه الخاصة ودوافعه الجنسية الغريزية. ولن يتغير شيء إذا ما وجد ذلك الفرد الأقوى فردا أقوى منه. ولا تغدو الحياة المشتركة ممكنة الا إذا توصلت الغالبية إلى تشكيل تجمع أقوى من قوة كل عضو من أعضائه على حدة، والى المحافظة على تلاحم متين في مواجهة كل فرد على حدة. وعندئذ يقف سلطان هذه الجماعة بوصفه "حقا" موقف المعارضة تجاه سلطان الفرد المرذَّل والموصوف بالقوى الغاشمة. وبحلول السلطان الجماعي محل القوة الفردية، تخطو الحضارة خطوة حاسمة إلى الأمام. ويكمن الطابع الأساسي لحضارة هذه المرحلة في كون أعضاء الجماعة يحدون من إمكانات التذاذهم بينما كان الفرد المفرد يجهل كل تضييق من هذا النوع. هكذا يكون المطلب الحضاري التالي هو مطلب "العدل"، أي الاطمئنان إلى ان النظام الشرعي الذي تمّ إقراره لن يُنتهك أبدا لصالح فرد مفرد. ونحن لا نصدر هنا حكما على القيمة الأخلاقية لمثل هذا "الحق". وإذ تواصل الحضارة ارتقاءها، تسلك طريقا تنزع خلاله إلى الكف عن اعتبار الحق تعبيرا عن إرادة جماعة صغيرة (طائفة أو طبقة أو أمة) تسلك إزاء سائر الكتل الجماهيرية، المماثلة لها في النوع ولكن الأكثر تعدادا في الأرجح، سلوك الفرد المتأهب للجوء إلى القوة الغاشمة. والمفروض ان تأتي النتيجة النهائية تأسيس حق بمشاركة الجميع، أو على الأقل جميع الأعضاء القابلين للانتماء إلى الجماعة، من خلال تضحيتهم بدوافعهم الغريزية الشخصية، حق لا يفسح مجالا لوقوع أي واحد منهم ضحية القوى الغاشمة باستثناء أولئك الذين أبوا قبولا به.
ليست الحرية الفردية إذن نتاجا حضاريا. بل كانت، قبل أي حضارة، على أعظم ما يمكن ان تكون، ولكن بلا قيمة أيضا في غالب الأحيان، لان الفرد لم يكن في وضع يؤهله للدفاع عنها. وقد فرض عليها تطور الحضارة قيودا، وتقتضي العدالة بألا يعفى أحد من هذه القيود. وحين تشعر جماعة إنسانية ما بدفقة من الحرية تجيش في أعماقها، فإن ذلك يمكن أن يكون تعبيرا عن حركة تمّرد ضد ظلم سافر، وهذا بدوره قد يساعد على تحقيق تقدم حضاري جديد. لكن ذلك قد يكون أيضا نتيجة لاستمرار بعض رواسب من نزعة فردية غير مروّضة، فيشكل بالتالي قاعدة وأساسا للميول المناوئة للحضارة. وتنصبّ دفعة الحرية، بفعل ذلك، ضد بعض الأشكال أو بعض المطالب الثقافية، أو حتى ضد الحضارة بالذات.
لا يبدو ان هناك إمكانية لحمل الإنسان، كائنة ما كانت الوسيلة، على مقايضة طبيعته بطبيعة الأرَضة[28]، فهو دائم الميل إلى الدفاع عن حقه في الحرية الفردية ضد إرادة المجموع. وكثيرة هي الصراعات التي تخاض ضمن نطاق البشرية وتتركز حول مهمة يتيمة: إيجاد توازن مناسب، وقمين بالتالي بتأمين سعادة الجميع، بين مطالب الفرد وبين المطالب الثقافية للجماعة. وانها لواحدة من المشكلات التي يتوقف عليها مصير الإنسانية ان نعرف هل يمكن أن يتحقق هذا التوازن بواسطة شكل معين من الحضارة، أم أن هذا النزاع، على العكس، لا حل له. بمطالبتنا قبل قليل الحس المشترك بأن يهدينا إلى سمات الحياة الإنسانية التي تستأهل اسم الحضارة، انتهينا إلى تكوين صورة واضحة وإجمالية للحضارة، لكننا لم نعلم تقريبا شيئا لا يعرفه القاصي والداني. وبالمقابل، احترزنا من الوقوع في حبائل الرأي المسبق الذي يقول أن الثقافة تعادل التقدم وترسم للإنسان طريق الكمال. ولكن هنا يفرض علينا نفسه تصور قمين بتوجيه اهتمامنا في وجهة مغايرة. فتطور الحضارة يبدو لنا أشبه ما يكون بسيرورة من نوع خاص تجري "فوق" الإنسانية، ولكنها سيرورة يوحي إلينا العديد من خصائصها بأنها من الأشياء المألوفة عندنا. ويمكننا تمييز هذه السيرورة من خلال التعديلات التي تدخلها على العناصر الأساسية المعروفة عميق المعرفة والمسماة بغرائز البشر، تلك الغرائز التي تمثل تلبيتها المهمة الاقتصادية الكبرى لحياتنا.
ان عددا معينا من هذه الغرائز سيجري استهلاكه واستنفاذه على نحو ينبجس مكانه شيء سنسميه لدى الفرد بخاصية أو سمة طبعيّة. وأسطع الأمثلة على هذه الأوالية تقدمه لنا ايروسية الطفل الشرجية. فالاهتمام البدئي الذي يعلقه على وظيفة التغوط، وعلى أجهزتها ونتاجها، يتحول أثناء النمو إلى مجموعة من الصفات المعروفة تماما لدينا: الشح والتقتير، حسن النظام، وحب النظافة. ولئن تكن هذه الصفات ذات قيمة كبيرة في حد ذاتها وتستأهل كل تقدير وترحيب، فان كفّتها قد ترجح على ما عداها إلى حد الشذوذ إذا ما تضخمت وشحذت حدتها، وعندئذ يتولد عنها ما نسميه بـ "الطبع الشرجي". نحن لا نعلم كيف يحدث ذلك، لكن لا يخامرنا ظل من شك بصدد صحة هذا التصور[29]. والحال اننا رأينا ان النظام والنظافة يدخلان في عداد مطالب الحضارة الأساسية، بالرغم من ان ضرورتهما الحيوية لا تتجلى فورا لكل ذي عينين، بل قد يكتنفها قدر من الإبهام يعادل ما يكتنف قابليتهما لان يكونا مصدرا للذة. وفَور الانتهاء من توضيح هذه النقطة، لا مفر من ان يلفت انتباهنا التشابه القائم بين سيرورة التحضر وتطور الليبيدو لدى الفرد. وثمة دوافع غريزية أخرى قادرة على ان تغير، إذا ما بدلت وجهتها، الشروط اللازمة لتلبيتها، وعلى أن تعين لها طرقا أخرى، وهذا ما يتطابق في معظم الحالات مع أوالية معروفة جيدا لدينا: التصعيد (لهدف الدوافع الغريزية)، ولكنه يفترق عنها في حالات أخرى. ويشكّل تصعيد الغرائز واحدة من أبرز سمات التطور الثقافي، فهو الذي يسمح للنشاطات النفسية الرفيعة، العلمية أو الفنية أو الأيديولوجية، بأن تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الكائنات المتحضرة. وقد نميل، للوهلة الأولى، إلى أن نرى فيه بصورة أساسية المصير الذي تفرضه الحضارة على الغرائز. لكن خيرا نفعل لو أمعنا النظر في الأمر مليا. ومن المتعذر ثالثا وأخيرا، وهذه النقطة تبدو أهم النقاط كافة، الا نفطن إلى أي مدة يقوم بناء الحضارة على مبدأ العزوف عن الدوافع الغريزية، والى أي مدى يقتضي هذا البناء الحضاري عدم إشباع (قمع، أو كبت، أو أي أوالية مماثلة أخرى) الجامح من الغرائز. وهذا "العزوف الحضاري" يتحكم في الشبكة الواسعة للعلاقات الاجتماعية بين الناس، ولقد سبق أن عرفنا أنه فيه على وجه التحديد تكمن علة العداء الذي يتوجب على الحضارات كافة أن تكافحه وتقاومه. وسوف يفرض هذا العزوف على مبحثنا العلمي أعباء ثقيلة، وسوف يتوجب علينا أن نسلط الضوء على العديد من النقاط. وليس من اليسير أن نفهم كيف يمكن للمرء ان يتدبر أمره كي يأبى إشباع غريزة من الغرائز. والأمر لا يخلو من خطر، فإذا لم يكافأ هذا الرفض على نحو اقتصادي، كان لنا أن نتوقع حدوث اختلالات خطيرة. لكن إذا كنا نحرص على معرفة ما القيمة التي يمكن أن يدعيها لنفسه تصورنا عن تطور الحضارة، بوصف هذا التطور سيرورة خاصة مشابهة للنضوج السوي لدى الفرد، فلا مفر لنا بالبداهة من التصدي لمشكلة أخرى ومن التساؤل بادئ ذي بدء عن المؤثرات التي يدين لها هذا التطور بمنشئه، وعن الكيفية التي رأى بها النور، وعما حدد مجراه ومساره.
- 4 -
انها والحق، لمهمة شاقة، ولنقر بأن الشجاعة حيالها تخوننا. سأكتفي إذن بأن اعرض هنا النزر اليسير الذي أمكنني أن استشفه.
حين اكتشف الإنسان البدائي أن أمر تحسين مصيره الأرضي قد أمسى، بفضل العمل، بين يديه، بالمعنى الحقيقي لا المجازي، ما عاد في مستطاعه أن يبقى على موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث تجاه مبادرة هذا أو ذاك من أقرانه إلى العمل معه أو ضده. فقد تلبس هذا القرين في نظره قيمه المعاون، وصار من المفيد له ان يعيش معه. وكان الكائن الإنساني قد اخذ بعادة تأسيس الأسر منذ عهد ما قبل التاريخ يوم كان ما يزال قريبا من القرد، وأرجح الظن ان أعضاء آسرته كانوا مساعديه الأوائل. ويمكننا الافتراض بأن تأسيس الأسرة تواقت مع ارتقاء معين لحاجة الإشباع التناسلي، على أساس ان هذه الحاجة لم تعد تظهر إلى حيز الوجود على طريقة الضيف الذي يطرق بابك على حين غرة ثم تنقطع أخباره عنك ردحا طويلا من الزمن بعد رحيله، وإنما على طريقة المستأجر الذي يقيم في المنزل فلا يبرحه. وبذلك تواجد لدى الذكر الدافع ليحتفظ بالأنثى لديه، أو بصورة أعم بالمواضيع الجنسية، ولم تجد الإناث بدورهن مناصا من البقاء لدى الذكر الأقوى حرصا منهن على عدم الافتراق عن صغارهن، وقد كان بقاؤهن في صالح هذه المخلوقات الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة[30]. وفي إطار تلك الأسرة البدائية نظل نفتقر إلى سمة أساسية من سمات الحضارة، إذ أن عسف الزعيم والأب كان غير محدود. وقد حاولت أن أشير في الطواطم والتابو إلى الطريق الذي قاد من تلك المرحلة الأسرية البدائية إلى المرحلة التالية، أي المرحلة التي تحالف فيها الاخوة فيما بينهم. وبانتصار هؤلاء على الأب، عرفوا بالتجربة ان الاتحاد يمكن ان يكون أقوى من الفرد المفرد. وتقوم الحضارة الطوطمية[31]على القيود التي ما وجدوا مناصا من فرضها على أنفسهم للحفاظ على ذلك الوضع المستجد. وقد شكلت قواعد التابو[32] أول شرعة "قانونية". كانت حياة الناس المشتركة تقوم إذن على الأساس التالي: أولا إلزام العمل، وهو إلزام أوجدته الضرورة الخارجية، وثانيا قوة الحب، على اعتبار ان هذا الأخير يستوجب الا يحرم الرجل من المرأة، موضوعه الجنسي، والا تحرم المرأة من ذلك الجزء المنفصل عن جسمها والذي هو طفلها. هكذا غدا ايروس وانانكيه[33] والدي الحضارة الإنسانية التي كانت مأثرتها الأولى إتاحة الإمكانية لعدد كبير من الكائنات البشرية ان يبقوا ويعيشوا في ظل حياة مشتركة. وبما ان قوتين لا يستهان بهما قد تضافرتا في هذا المجال ووحدتا جهودهما، فقد كان من المأمول أن يتم التطور اللاحق بلا صعوبة وأن يفضي إلى سيطرة أشمل فأشمل على العالم الخارجي، وكذلك إلى زيادة مطردة في عدد الأعضاء الذين تضمهم الجماعة الإنسانية تحت جناحها. وليس من السهل ان نفهم أيضا كيف كان يمكن لهذه الحضارة عينها ألا تعمل على إسعاد أبنائها. قبل أن نتفحص من أين يمكن ان يجيء الشر، وحتى نسد ثغرة تركناها بلا ردم في مقطع سابق، لنرجع أدراجنا إلى مفهوم الحب الذي سلمنا بأنه كان واحدا من أسس الحضارة. لقد نوهنا آنفا بتلك الواقعة. الاختبارية المتمثلة في أن الحب الجنسي (التناسلي) يوفر للكائن الإنساني أقوى ملذات وجوده ويؤلف بالنسبة إليه النموذج الأول لكل سعادة، ولقد قلنا أيضا انه ما كان على البشرية الا أن تخطو خطوة واحدة أخرى إلى الأمام بعد ذلك حتى تنشد سعادة الحياة في ميدان العلاقات الجنسية وحتى تجعل الايروسية التناسلية في نقطة المركز من تلك الحياة. ثم أضفنا قولنا ان الإنسان بسلوكه هذا الطريق قد حكم على نفسه، بصورة تبعث على أشد القلق، بالتبعية لقسم من العالم الخارجي، نعني الموضوع المحبوب، وبات عرضة لألم حاد في حال إعراض هذا الأخير عنه أو فقدانه إذا لم يكن وفيا له أو إذا فارق الحياة. ولهذا حذر الحكماء في جميع الأزمان بإلحاح ما بعده إلحاح من سلوك ذلك الطريق (لكن بالرغم من جهودهم كافة، لم يفقد هذا الطريق إغراءه بالنسبة إلى عدد كبير من أبناء البشر).
لقد قُيّض لأقلية منهم، بفضل جبلتهم، ان يصلوا رغما عن كل شيء إلى تلك السعادة عن طريق الحب، لكن لا بد لذلك من إدخال تعديلات واسعة ذات صفة نفسية على وظيفة الحب. فأولئك الأشخاص يحررون أنفسهم من موافقة الموضوع ورضاه عن طريق عملية نقل للقيمة، أي بصبهم على حبهم بالذات الأهمية التي كانوا يعلقونها في البدء على ان يكونوا من المحبوبين، وهم يحمون أنفسهم من فقدان الشخص المحبوب باتخاذهم مواضيع لحبهم لا كائنات محددة وإنما جميع الكائنات الإنسانية سواسية، ويتجنبون أخيرا التقلبات والخيبات المرتبطة بالحب التناسلي بإشاحتهم عن هدفه الجنسي وبتحويلهم الدوافع الجنسية الغريزية إلى عاطفة ذات "هدف مكفوف". والحياة الداخلية التي يختلقونها لأنفسهم عن هذا السبيل، أعني تلك الكيفية الرقيقة، المتعادلة، الهادئة في الإحساس، المنيعة أيضا على كل تأثير، لا يعود بينها وبين الحياة الحبّية التناسلية وانفعالاتها وعواطفها من شبه خارجي كثير، بالرغم من انها تنبع منها أساسا. ولعل القديس فرنسيس الأسيزي[34] هو من توغل أبعد ما يكون التوغل في ذلك الطريق المفضي إلى استخدام الحب استخداما كاملا لأغراض حس السعادة الداخلية. ولئن تعرفنا في هذه الطريقة واحدة من التقنيات الرامية إلى تحقيق مبدأ اللذة، فقد ربطها غيرنا بالدين وأرجعها إليه في غالب الأحيان، ذلك ان مبدأ اللذة والدين يمكن أن يتلاقيا في تلك المناطق النائية التي لا يبالي فيها المرء بتمييز أناه من المواضيع، وبتمييز المواضيع بعضها من بعض. وثمة تصور أخلاقي، سنتبين عما قليل دوافعه الدفينة، يريد ان يرى في ذلك النزوع إلى الحب الكوني للإنسانية وللعالم أمسى موقف يمكن للكائن البشري ان يقفه. وهنا تبارحنا كل رغبة في الاستمرار بالاحتفاظ في سرنا بتحفظين رئيسيين اثنين: أولا، ان الحب الذي لا يختار يفقد في نظرنا بعضا من قيمته الذاتية إذ يدلل على ظلم وإجحاف بحق موضوعه، ثانيا، ليست الكائنات البشرية جديرة جميعها بأن تكون محبوبة. ان هذا الحب الذي أسس الأسرة ما يزال يمارس تأثيره وسلطانه في داخل الحضارة سواء أفي شكله البدائي من حيث انه لا يعزف عن الإشباع الجنسي المباشر، أم في شكله المعدَّل من حيث انه محبة مكفوفة الهدف. ويمضي الحب في هذين الشكلين، في أداء وظيفته في الجمع بين أعداد أكبر فأكبر من الكائنات البشرية وفي التوحيد بينها بقوة لا تفلح في الوصول إلى مثلها مصلحة جماعة يقوم كيانها على العمل. وعدم دقة في استعمال كلمة "الحب" له ما يبرره من وجهة نظر علم الوراثة. فاسم الحب يطلق على العلاقة بين الرجل والمرأة اللذين أسسا أسرة بداعي حاجاتهما الجنسية، ولكنه يطلق أيضا على العواطف الإيجابية التي تقوم ضمن نطاق الأسرة بين الأهل والأولاد، بين الاخوة والأخوات، مع أنه كان يفترض فينا أن نصف العلاقات الأخيرة هذه بأنها حب مكفوف من حيث الهدف، أي محبة. لكن هذا الحب المكفوف كان في الأصل بالغ الشهوانية، وقد لبث كذلك في لاشعور البشر. وسواء أكان الحب كلي الشهوانية أو مكفوفا، فانه سيتخطى نطاق الأسرة ليستولي، في شكليه الاثنين، على مواضيع كانت ما تزال إلى حينه مجهولة وغريبة، وليقيم معها علاقات جديدة: فهو يفضي في شكله التناسلي إلى تشكيل أسَر جديدة، وفي شكله المكفوف من حيث الهدف إلى "صداقات" لها أهميتها البالغة بالنسبة إلى الحضارة لأنها تتملص من العديد من القيود المفروضة على الأول، وعلى سبيل المثال حصريته. ولكن مع المزيد من التقدم والارتقاء لا تعود العلاقة بين الحب والحضارة ملتبسة: فالحب يحارب من جهة أُولى مصالح الحضارة، وهذه بدورها تتهدده، من جهة ثانية، بتقييدات مؤلمة.
يبدو هذا العداء المتبادل وكأنه محتوم لا مناص منه، لكن ليس من اليسير ان ندرك دفعة واحدة سببه الدفين. انه يتجلى، أول ما يتجلى، في شكل نزاع بين الأسرة وبين الجماعة الأرحب نطاقا التي ينتمي إليها الفرد. وقد سبق ان لاحظنا ان واحدا من جهود الحضارة الرئيسية ينصّب على تجميع الناس في وحدات كبيرة. لكن الأسرة لا تريد ان تتخلى عن الفرد.
فأعضاؤها يزدادون ميلا واستعدادا للانعزال بأنفسهم عن المجتمع، ويواجهون صعوبة اكبر في الدلوف إلى دائرة الحياة الكبيرة، كلما توثقت الوشائج التي توحد بينهم. وان أقدم طراز للحياة المشتركة من وجهة نظر تطور النوع، وهو الطراز الوحيد الذي يسود أيضا أثناء طفولة الفرد، يتصدى بالمقاومة للطراز المتمدن الذي تم التوصل إليه في زمن متأخر والذي يسعى إلى الحلول محله. وهكذا يغدو الافتراق عن الأسرة بالنسبة إلى كل مراهق مهمة، مهمة يساعده المجتمع في كثير من الأحيان على أدائها عن طريق طقوس البلوغ وإطلاع المراهق على "الأسرار". ويساورنا هنا انطباع بان هذه الصعوبات ملاذ لكل تطور نفسي، وفي الواقع، لكل تطور عضوي أيضا.
أضف إلى ذلك ان النساء لا يتأخرن عن معاكسة تيار التحضر والتمدن، وهن يمارسن تأثيرا ينزع إلى إبطائه وإعاقته. وهذا مع ان أولئك النسوة هن أنفسهن اللواتي أرسين في البدء أساس الحضارة بفضل مطالب حبهن. ولسوف يأخذن بنصرة مصالح الأسرة والحياة الجنسية، بينما سيفرض العمل التمديني، الذي سيمسي اكثر فأكثر من اختصاص الرجال، على هؤلاء الأخيرين مهام متعاظمة الصعوبة وسيرغمهم على تصعيد غرائزهم وهو التصعيد الذي لا تملك النساء أهلية كبيره له. ولما كان الكائن الإنساني لا يتمتع بكمية غير محدودة من الطاقة النفسية، فانه لا يستطيع إنجاز مهامه الا من خلال توزيع مناسب لطاقته الليبيدية. والنصيب الذي يخص به أهدافا ثقافية من تلك الطاقة إنما يقتطعه بوجه خاص من النساء ومن الحياة الجنسية، واحتكاكه الدائب بغيره من الرجال وتبعيته الناجمة عن علاقاته بهم يدفعان به إلى التقاعس عن واجباته كزوج وأب. وحين ترى المرأة نفسها وقد أقصتها متطلبات الحضارة إلى المرتبة الثانية، تقف من هذه الحضارة موقفا عدائيا.
بديهي ان الحضارة من جهتها لا تنزع إلى توسيع الدائرة الثقافية فحسب، بل تسعى أيضا، وبالقدر نفسه، إلى تضييق الحياة الجنسية. فمنذ طورها الأول، طور الطوطمية، تنطوي سننها على تحظير اختيار الموضوع من بين المحارم، وهو تحظير يعادل في أرجح الظن أعنف بتر وأجمى تشويه فرض على مر الزمن على حياة الحب لدى الكائن الإنساني. وبقوة المحرمات والشرائع والأعراف، تفرض قيود جديدة على الرجال والنساء على حد سواء. لكن الحضارات لا تقطع جميعها هذا الشوط الطويل على هذا الطريق، فبنية المجتمع الاقتصادية تمارس بدورها تأثيرها على المقدار الذي يمكن ان يبقى قائما من الحرية الجنسية. ونحن نعلم جيدا ان الحضارة تنصاع بصدد هذه النقطة للضرورات الاقتصادية، لأنها مكرهة على أن تقتطع من الحياة الجنسية مقدارا غير قليل من الطاقة النفسية كي تستخدمه لأغراضها. وهي تتبنى هنا سلوكا مماثلا لسلوك قبيلة أو طبقة من السكان تستغل وتنهب قبيلة أو طبقة أخرى منهم بعد ان تكون قد أخضعتها لسيطرتها. فالخوف من تمرد المضطهَدين يحض على تدابير وقائية اشد صرامة. وقد بلغت حضارتنا الأوروبية الغربية، كما تبين لنا، نقطة أوج في هذا المسار. ولكن لئن بدأت بتحظير صارم لأي تظاهرة للجنسية الطفلية، فان هذا الفعل الأول له كامل تبريره من وجهة نظر علم النفس، لان حجز رغبات الراشد الجنسية المضطرمة لا حظّ له في النجاح ما لم يمهد له منذ الطفولة بعمل تحضيري. أما ما ليس له من مبرر البتة فهو مغالاة المجتمع المتحضر في هذا السبيل إلى حد نفي هذه الظاهرات الجلية السافرة التي ليس أسهل من إثبات وجودها. فاختيار الموضوع من قبل فرد بالغ جنسيا سَيُحْصَر بالجنس الآخر، وسيجري تحظير معظم الإشاعات الخارجة عن النطاق التناسلي بوصفها انحرافات.
وضروب الحظر المتنوعة هذه تعبر عن مطلب حياة جنسية متماثلة للجميع، وهذا المطلب، بتعاليه على التفاوتات التي يشتمل عليها التكوين الجنسي الفطري أو المكتسب للكائنات الإنسانية، يحرم عددا لا يستهان به منها من اللذة الايروسية. ويغدو بالتالي مصدرا لظلم فادح. وقد يتمثل نجاح هذه التدابير الرادعة عندئذ في الواقعة التالية: فالاهتمام الجنسي يندفع برمته، على الأقل لدى الأفراد الأسوياء الذين لا يتعارض تكوينهم مع هذا النوع من رد الفعل، في "اقنية" تركت مفتوحة، وهذا من دون أن يتعرض ذلك الاهتمام لأي هدر أو نقصان.
لكن الشيء الوحيد الذي يبقى حرا وفالتا من ذلك الحظر، أي الحب الجنسي والتناسلي الغيري، يقع بدوره أسير تقييدات جديدة تفرضها الشرعية وأحادية الزواج. فالحضارة المعاصرة لا تتردد في المجاهرة باعترافها بالعلاقات الجنسية شرط ان يكون أساسها القِران الذي لا فصام له، والذي يعُقد مرة واحدة ونهائية، بين الرجل والمرأة، كما لا تتردد في إعلان عدم قبولها بالجنسية بوصفها مصدرا مستقلا بذاته للذة، وفي إعلان عدم استعدادها للتسليم بها الا بصفتها عامل تكاثر ما أمكن لأي شيء آخر أن ينوب منابه حتى يومنا هذا.
طبيعي أن ذلك هو الشطط بعينه. وكل إنسان يعلم ان هذه الخطة قد ثبت عدم صلاحها للتطبيق، ولو لأجل قصير. والحق ان الضعفاء هم وحدهم الذين أمكن لهم أن يتكيفوا مع مثل تلك القيود الواسعة على حريتهم الجنسية. أما أصحاب القوة والعزيمة فلم يقبلوا بها الا مقابل منحهم تعويضا سيأتي دور الكلام عنه لاحقا. وقد اضطر المجتمع المتحضر إلى التغاضي عن مخالفات عديدة كان يفت